فصل: خاتمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العقبات التي تعترض بناء الأمة الإسلامية **


العقبات التي تعترض بناء الأمة الإسلامية

 مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‏.‏

وبعد،،،

فإن الرسالة الإسلامية تهدف فيما تهدف إلى بناء الإنسان الصالح والأمة الصالحة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏2-4‏)‏

ومعلوم أن الأميين هم العرب أهل هذه الجزيرة الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا أمة أمية، ولم يكن يحسن القراءة والكتابة منهم إلا عدد قليل عند نزول الوحي‏.‏

وأما الآخرون الذين شاء الله أن يلتحقوا بالأمة المسلمة فهم كل مسلم اهتدى إلى دين الإسلام إلى قيام الساعة كما يشير بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول‏:‏ ‏[‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏

وهذه الأمة الإسلامية منذ الداعي الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر فرد فيها وصفهم الله بأنهم خير أمة ظهرت في الأرض حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏110‏)‏، ومعلوم أن ‏{‏كان‏}‏ تفيد الاستمرار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏(‏النساء‏)‏ ‏{‏وكان الله سميعاً عليماً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏148‏)‏، وخيرية هذه الأمة مرده إلى إيمانها بالله وحملها لشريعته، ودعوتها إليه قال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏، ثم لوراثة هذه الأمة كتاب الله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونا يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏32-33‏)‏ فهم الذين اصطفاهم الله أي اختارهم لوراثة كتابه الكريم‏.‏

وقد جعل الله هذه الأمة ثلاث طبقات في الصلاح والتقوى‏:‏ فمنهم ‏{‏ظالم لنفسه‏}‏، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏.‏

ومنهم ‏{‏مقتصد‏}‏ وهو الذي لازم الطاعة الواجبة وابتعد عن المعصية، ولم يكن له باع في الفضائل‏.‏

ومنهم ‏{‏سابق بالخيرات بإذن الله‏}‏ وهو الذي انتهى عن المحرمات وجاوز ذلك إلى الانتهاء أيضاً عن المكروهات والشبهات‏.‏ وفعل الواجبات وأضاف إلى ذلك المندوبات وسارع في الخيرات‏.‏

وهؤلاء جميعاً ‏(‏الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات‏)‏ قد وعدهم الله الجنة على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم في الخير والفضل، والحمدلله على نعمائه‏.‏

 مفهوم الإنسان الصالح والأمة الصالحة

لا شك أن الإنسان الصالح الذي تهدف الرسالة الإسلامية إلى بنائه ليس هو الإنسان الغني المترف، الذي يتمتع بطيبات الحياة، ويحيا في العيش الرغيد، ويتفنن في العلوم الدنيوية‏.‏‏.‏ ثم هو بعد ذلك جاهل بربه، جاهل بالغاية التي خلق من أجلها على هذه الأرض، فمثل هذا الإنسان عند الله أحط قدراً من الأنعام‏.‏‏.‏ كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏179‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏}‏‏.‏

ونفي الله لسمع هؤلاء وبصرهم وعقولهم ليس على إطلاقه، بل هم أهل بصر وسمع وعلم، ولكن ذلك كله محصور في أمر الدنيا‏.‏‏.‏ كما قال تعالى عنهم ‏{‏ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون* يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ ‏(‏الروم‏)‏ وقال عن عاد وثمود ‏{‏وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏:‏38‏)‏ أي ذوي بصيرة وخبرة بالحياة الدنيا فهم أهل بصر بالزراعات والصناعات والبناء وشئون الحياة والمعاش كما قال صالح لقومه ‏(‏ثمود‏)‏‏:‏ ‏{‏أتتركون فيمنا ها هنا آمنين، في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين، فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏146-150‏)‏

فالذين عاشوا خلال جنات وعيون وزروع ونخيل طلعها هضيم ونحتوا الجبال بيوتاً ‏{‏جابوا الصخر بالواد‏}‏، لا شك أنهم كانوا على علم بالحياة وبصرفيها‏.‏ فإن كل ذلك لا يتأتى إلا بعلوم دنيوية فائقة متقدمة‏.‏

وكذلك أيضاً قال هود لقومه ‏(‏عاد‏)‏‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏.‏‏.‏ أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏128-135‏)‏‏.‏

فالذين بنوا بكل سفح من سفوح جبالهم بناءاً فخماً كان آية في الجمال والدقة، واتخذوا المصانع كأنهم مخلدون أبداً أو ليخلدوا أبداً، وبطشوا بأعدائهم بغير رحمة، وحازوا الأموال والأولاد، وعاشوا في الجنات والبساتين، لا شك أن هؤلاء كانوا يتمتعون بالبصيرة الدنيوية والعلم المادي الذي أهلهم لذلك، ولكن كل ذلك لم يخرجهم عند الله من دائرة الإجرام، ولم يرفعهم من مرتبة الحيوانات‏.‏‏.‏ كما قال تعالى عنهم ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ ‏(‏يونس‏:‏13‏)‏

بل إن الله سبحانه وتعالى مدح نفسه على إهلاكهم وإزالتهم من وجه الأرض حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏‏.‏ ‏(‏الأنعام‏:‏42-45‏)‏

وإهلاك الله للقرى الظالمة والدول الجائرة الكافرة قد يكون بالدمار الشامل وترك ديارهم خراباً وأرضهم يباباً ‏(‏خراباً لا شيء فيها‏)‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏45‏)‏ أي بئر معطلة عن السقي مع امتلائها بالماء وقصر مشيد لا يسكنه أحد‏!‏‏!‏

وقد يكون الهلاك بتسليط غيرهم عليهم من أهل الإيمان تارة، أو من أمثالهم من أهل الكفر أخرى، كما سلط الله هذه الأمة الإسلامية على الأمم التي كفرت به من أهل الكتاب الذين بدلوا شرائع الله وانحرفوا عن هديه سبحانه‏.‏‏.‏ قال تعالى بعد أن أورث المسلمين أرض اليهود في المدينة يهود بني قريظة ‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها، وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏45‏)‏ وقال عن أمثالهم يهود بني النضير‏:‏ ‏{‏يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏2‏)‏

وبشر الله نبيه قبل موته أن أمته سترث الأمم وتملك العالم شرقه وغربه‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها‏]‏‏.‏ ‏(‏رواه الترمذي‏)‏

وقرأ سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى بعد فتح فارس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين‏، كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏}‏ ‏(‏الدخان‏)‏ فبكى وبكى الناس وراءه‏.‏

وقد يهلك الله الظالمين بالظالمين، ويؤدب المؤمنين بالكافرين‏.‏‏.‏ كل ذلك وفق حكمته التامة، وعلمه المحيط‏.‏

المهم هنا أن نعلم أن الأمة الصالحة، والمجتمع الصالح في ميزان الله، ليسا هي الأمة والدولة التي تعيش في بيوت جميلة وشوارع واسعة، وحدائق غناء، وملاعب حديثة‏.‏‏.‏ وبل قد يكون هذا كله موجوداً وتكون هذه الأمة ملعونة في ميزان الله موصوفة بالظلم والطغيان، والكفر والعصيان‏.‏

وكذلك الحال أيضاً في الأفراد، فليس الفرد الصالح أو الإنسان الصالح هو الغني المترف المنعم، العليم بشؤون دنياه، الظريف المنمق، الجميل المتأنق، بل قد يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات جميعها، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة‏]‏‏.‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏

وقال تعالى عن قارون الذي افتخر بماله وزينته وثروته وسلطانه‏:‏ ‏{‏أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون‏}‏ ‏(‏القصص‏:‏48‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر‏]‏ ‏(‏رواه أحمد وأبو داود‏)‏‏.‏‏.‏ والجعظري‏:‏ هو الغليظ الشديد المنيع في قومه وسربه‏.‏

وهنا نأتي إلى السؤال‏:‏ إذاً ما صفات المجتمع الصالح والأمة الصالحة في ميزان الله وما صفات الفرد الصالح أو الإنسان الصالح الذي يحبه الله ويتولاه‏؟‏‏؟‏

والجواب‏:‏

أن الأمة الإسلامية الصالحة هي الأمة التي يكون تجمعها والتئامها وترابطها على أساس الإيمان بالله ورسالاته والعمل وفق محبته ورضوانه فتكون بذلك علاقة أفرادها قائمة على أساس الأخوة في الله، وما تقتضيه هذه الأخوة من التراحم والتعاطف والتعاون والنصرة والموالاة، ويكون تعاملها مع غيرها من أمم الأرض قائما على أساس من هذه العقيدة أيضاً‏.‏ فهي داعية للناس جميعاً أن يكونوا إخوة في رحاب الإسلام‏.‏ وهي تعادي في سبيل عقيدتها وتحارب في سبيلها، وتسالم وتصالح وتعاهد وتهادن وفق هذه العقيدة أيضاً، ومصالحها الدنيوية لإيمانها ودينها‏.‏

والفرد الصالح لبنة في هذا المجتمع وعضو في هذه الأمة‏.‏ يؤمن بالله ويسخر حياته كلها من أجل دينه‏.‏‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏162‏)‏ وهو مع جعله حياته لله ومماته لله يحب الخير للناس جميعاً ويحمل الهداية للناس كافة، ولا يدخر وسعاً في إسعاد الآخرين من قضاء حقوق العباد التي ألزمه الله بها، فهو بار بوالديه‏.‏‏.‏ وأصل لأرحامه‏.‏‏.‏ نافع لجيرانه‏.‏‏.‏ متعاون مع إخوانه‏.‏‏.‏ كاف شره عن الناس، قد سلم الناس من لسانه ويده، وائتمنوه على حرماتهم وأموالهم، وهو مع ذلك يغضب لله ويرضى له، ويعادي في الله ويحب فيه، يعادي في الله أعداء الله ولو كانوا أقرب الناس إليه، ويحب في الله أحباب الله ولو كانوا أبعد الناس عنه، ويقاتل في سبيل الله من كفر واعتدى ولو كانوا من الآباء والأبناء والأخوة والعشيرة، هذا في جانب الخلق‏.‏

أما أخلاقه مع الخالق فهي أكمل الأخلاق فهو شاهد لله بما شهد سبحانه لنفسه من أنه الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، المصور الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى القائم على كل نفس بما كسبت، مؤمن برسالات الله‏.‏

ومثل هذا الإنسان الصالح محبوب عند الله ولو كان في أسمال بالية، وبيت متواضع، وبطن جائع‏.‏ وذلك المجتمع والأمة التي تضم أمثال هذا هي خير الأمم ولو عاشت في صحارى قاحلة، وشوارع ضيقة، وبيوت رثة بالية‏!‏‏!‏

وها نحن نقرأ في القرآن عن بني إسرائيل أن الله اختارهم لحمل رسالة، وفضلهم على العالمين في زمانهم، وكانوا شعباً مشرداً مطروداً يسامون الخسف ويصبحون ويمسون في الذل والإهانة، يعيشون مع الفراعنة يستحيون نساءهم، ويقتلون أبناءهم ويسومونهم سوء العذاب فيسخرونهم في البناء وفلاحة الأرض، وتنظيف الطرقات، وخدمة البيوت، ومع ذلك نقرأ في القرآن ثناء الله عليهم واجتباءه لهم وتفضيلهم على العالمين في زمانهم، لما قاموا برسالة الله وعبدوه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏47‏)‏، وهذا في موضعين من القرآن، وفي موضع ثالث قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏}‏ ‏(‏الدخان‏:‏32‏)‏ أي على علم بأنهم أصلح الناس في زمانهم ومن الله عليهم بأن نصرهم على عدوهم، وأنجاهم من بطشه وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏137‏)‏

ولكنهم بعد أن تجاوزوا حدود الله، وعصوا رسله، وشرعوا يقتلون أنبيائهم ويديرون ظهورهم لشريعة ربهم ويدعون في الدين ما لم ينزل عليهم زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وأنهم شعبه المختار، وتطاولوا على الله بالجحود والنكران، واصفين إياه سبحانه بأبشع الصفات كقولهم ‏(‏استراح في اليوم السابع‏)‏ ‏(‏يد الله مغلولة‏)‏ ‏(‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏)‏، ومجاوزين حدود شريعته، مستحلين للحرام ظالمين أنفسهم‏.‏

لذلك كله وغيره من المعاصي والذنوب لعنهم الله وطردهم من رحمته وسلط عليهم وإلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، بل وشتت شملهم في الأرض وقوض دولتهم وأنهى من الأرض فضلهم وسبقهم، وجعل اللعنة ملازمة لذكرهم حيث ذكروا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم،ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏78-80‏)‏

وقال عنهم أيضاً‏:‏ ‏{‏وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون، وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل الله إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏62-64‏)‏

وقال عنهم أيضاً‏:‏ ‏{‏فلما عتوا عما نهوا قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم، وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏166-168‏)‏

وإذا تركنا بني إسرائيل، وبعد أن صاروا ملعونين مطرودين من رحمة الله، وجدنا أن الله قد أقام بعدهم أمة عظيمة مدحها في القرآن وأثنى على نبيها حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏53‏)‏

ونجد أن هؤلاء الأنصار الذين جعلهم الله مثلاً لهذه الأمة في الفداء والتضحية لم يكونوا إلا مجموعة قليلة من صيادي الأسماك يتبعون رسولهم من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى قرية في قرى فلسطين فراراً من طغيان الرومان ووشايات اليهود الذين جعلوا جهدهم وجهادهم القضاء على دعوة عيسى عليه السلام‏.‏

أقول‏:‏ نجد أن الله يطلب من أتباع محمد نصره والقيام معه كما نصر أتباع عيسى نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏ ‏(‏الصف‏:‏14‏)‏

ونفهم من هذا الثناء أن هذه الأمة المهتدية كما أسلفنا كان روادها قليلي العدد، تركهم عيسى ورفعه الله وهم اثنا عشر رجلاً فقط، فقاموا من بعده بنشر الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، فنصرهم الله وأعزهم ودمر اليهود على أيديهم، ثم أن الروم المكذبين بالأمس دخلوا بعد ذلك في النصرانية، إلا أنهم بعد مدة وجيزة أفسدوا هذه الرسالة عقيدة وشريعة فأدخلوا عبادة الأصنام، واستحلوا أكل كل حرام، وتغالوا في رسولهم حتى جعلوه الله، أو ابناً لله، جعلوا تلاميذ عيسى رسلاً، ورهبانهم أرباباً ووسائط بينهم وبين الله‏.‏

وبالرغم من أنهم بنوا الكنائس العظيمة والأديرة الأنيقة الجميلة، وجعلوا للدين أعظم الإتاوات والمخصصات، وأنزلوا رهبانهم وعلماء دينهم منازل القادة والعظماء، وأججوا الحروب التي سموها مقدسة، ففتحوا العالم شرقاً وغرباً حتى أصبحت روماً كعبة العالم، وأم القرى في زمانها، حتى قال الناس ‏(‏كل الطرق تؤدي إلى روما‏)‏‏.‏‏.‏ ونشروا النصرانية الضالة في أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا حتى أصبح البحر الأبيض بحيرة رومية نصرانية‏.‏

أقول‏:‏ وبالرغم من كل ذلك إلا أن الله سبحانه وتعالى استغنى عن خدماتهم، ولم يأبه لجهادهم وجهودهم، بل حكم عليهم بالضلال والكفر لغلوهم في عيسى واستحلالهم المحرمات، واستعبادهم الشعوب الضعيفة، وجعلهم الدين كهانة وميراثاً، ولذلك لم تكن أمة النصارى بعد صدرها الأول أمة صالحة، ولا كان رجالها رجالاً صالحين بمفهوم الصلاح الذي يحبه الله ويرضاه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله نظر قبل مبعثي إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب‏]‏ ‏(‏رواه مسلم وأحمد‏)‏‏.‏

وهؤلاء البقايا الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رهباناً في الفلوات لا يأبه أحدهم لوجودهم ولا يهتم أحد برأيهم‏.‏‏.‏ في وقت كانت نصرانية الشرك في أوجها وعظمتها‏.‏

واستخلف الله من بعد ذلك رسولاً من العرب، وقد كانوا ذاك الوقت أفقر العالمين داراً، وأقل الناس أمناً وقراراً‏.‏‏.‏ فقد كانوا إما تجاراً يجوبون الأرض بين الشام واليمن، أو بدوا رحلاً يجوبون الجزيرة وراء العشب والمطر، وبدأت الأمة الجديدة الصالحة التي اختارها الله لرسالتها الخاتمة تخرج من بين صخور هذه الصحراء، وتُبنى في سهولها ووديانها، ويتبع دين الله حر وعبد وامرأة وصبي، يلوذون بالحبشة تارة، لأن فيها ملكاً لا يستباح جواره، وبأهلهم من الكفر تارة، ثم يتوجهون إلى المدينة فيبنون عريشاً لا يقيهم المطر، وينامون ويقومون في السلاح من الخوف وقد تربص الأعداء بهم من كل صوب‏.‏

يقول أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏استهلت السماء في ليلة إحدي وعشرين يعني من شهر رمضان فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبصرت عيني نظرت إليه صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح ووجه ممتلئ طيناً وماءاً‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏

ويقول أبو هريرة‏:‏ ‏[‏ولقد رأيتنا في صفة مسجد رسول الله نحواً من سبعين، ما منا من له إزار ورداء جميعاً‏]‏ ‏(‏رواه أبو داود والنسائي وغيرهم‏)‏

وقال جابر بن عبدالله الأنصاري‏:‏ ‏[‏ومن منا كان يجد ثوبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏‏.‏ أي أن عامتهم لم يكن لأحدهم إلا ثوب واحد إما إزار فقط، وإما رداء فقط‏.‏

وتقول عائشة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين‏:‏ ‏[‏ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏‏.‏ والبر هو القمح‏.‏

وقالت أيضاً رضي الله عنها‏:‏ ‏[‏ما شبع آل محمد يومين من خبز بر إلا وأحدهما تمر‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏

وقالت أيضاً‏:‏ ‏[‏إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال‏.‏‏.‏ ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏

ومع تلك الحال التي كان عليها رسول الله وأصحابه فإننا نقرأ ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، ومحبته لهم، ونعلم يقيناً أن ذلك كان المجتمع الصالح، بل المجتمع المثالي، الذي لم يوجد في الأرض خير منه لا قبله ولا بعده، تصديقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم،ثم الذين يلونهم‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏‏.‏

ويمن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة الصالحة فيفتح لها أبواب العالم ومغاليق القلوب، وكنوز الأرض‏.‏‏.‏ فتجبى إليها الثمرات من كل أرض، ويخافها أهل الأرض جميعاً الأحمر والأبيض والأسود، ويأمن الناس في رحابها حتى تخرج المرأة من بصرى الشام إلى صنعاء اليمن وحدها لا تخاف إلا الله، ويفيض المال في يدها فلا يقبله أحد‏!‏‏!‏

وتقوم هذه الأمة بدعوة الله في الأرض فيحقق الله فيها وعده ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏}‏ ‏(‏النور‏:‏55‏)‏

ولكن الأمة يتقادم بها العهد فتنسى كثيراً مما ذكرت به وتتفرق بأبنائها السبل، وتتبع سنن من كان قبلهم في الطغيان والتجبر، والإفراط والتفريط، والبعد عن عقيدة الإسلام وشريعته، فيحل بها أيضاً ما يحل بالأمم السابقة من تسليط أعدائها عليها، وهلاك بعضها ببعض، ولا تزال إلى اليوم تقرعها كل يوم قارعة‏.‏‏.‏ وتفقد كل صباح جزءاً مما كان بيدها بالأمس‏.‏

وها نحن أبناء هذه الأمة نجابه الواقع الأليم الذي نعيشه، ولا يحتاج منا إلى كثير شرح وبيان، والكل منا يحياه ويراه، وإن كان بعضنا أشد إحساساً بوطأته من بعض‏.‏‏.‏

نعيش فرقة شديدة مزقت أمة الإسلام شيعاً وأحزاباً ودولاً وممالك قام بينها التناحر والخلاف والشقاق، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، ومن خلال هذا الخلاف دخل العدو الكافر، وحدث الفساد الكبير الذي حذرنا الله منه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصير* والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏ ‏(‏الأنفال‏:‏72-73‏)‏‏.‏

والآن نأتي إلى السؤال الذي قدمنا هذه المقدمة الطويلة من أجله‏:‏ ما الأسباب التي أوصلتنا إلى تلك الحال‏؟‏‏؟‏ وكيف الخروج من المشكلات التي تجابه أمتنا وتعترض سبيل تربيتنا‏؟‏‏؟‏

كيف الطريق إلى المجتمع الصالح والأمة الصالحة‏؟‏‏؟‏ وما المنهاج الذي على أساسه نبني الإنسان الصالح‏؟‏‏؟‏

وللجواب على هذه الأسئلة‏.‏‏.‏ نقول‏:‏ هناك مشكلات كثيرة تعترض سبيلنا، وتحول بيننا وبين الوصول إلى هذه الغاية، ولكن أهمها ما يلي‏:‏

 المشكلات تحول بيننا وبين الوصول إلى هذه الغاية

 أولاً‏:‏ ضياع الهدف والغاية

إن أمة الإسلام هي أمة الله، وحاملة رسالته إلى العالمين، بدءاً من جيل الصحابة والتابعين ونهاية بمن يجاهدون الدجال مع عيسى بن مريم من المؤمنين الموحدين‏.‏

ولقد كان أول أسباب الفشل والضياع الذي أصاب أمتنا، وشتت شملها هو ضياع الهدف والغاية التي من أجلها برزت هذه الأمة إلى الوجود‏.‏‏.‏ وكانت خير أمة أخرجت للناس، فالأمة الإسلامية أمة العقيدة‏.‏‏.‏ أمة الدعوة، أو أمة الإيمان‏.‏‏.‏ والرابطة التي جمعت هذه الأمة ليست فكرة أرضية بشرية، ولكنها كلمة إلهية ربانية‏.‏ إنها كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كلمة تملأ القلوب والوجدان وتغذي الفكر والعاطفة، وهي تعني باختصار‏:‏ أن الله خالق هذا الكون ومدبره، وأنه الإله الواحد الذي يجب على جميع الخلائق توحيده وعبادته، والخضوع لسلطانه وتشريعه، والسعي لبلوغ مرضاته ورضوانه، وأن كل ما يعبد من دونه باطل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المختار المصطفى للدلالة على هذا الرب العظيم، ودعوة الناس جميعاً إلى مرضاته، وتحذير العالمين من معصيته، وعلى أساس هذه الكلمة اجتمع الأسود والأحمر، والعربي والأعجمي‏.‏

لقد كان للعرب دورهم الفريد في نصر الدين ولا يزال، ولكن الكلمة والدعوة لم تكن خاصة بهم، ولا حكراً عليهم، وإنما اختص الله العرب لمميزات فيهم ولم تكن لغيرهم من حب للبذل والتضحية، وشجاعة فائقة، وشهامة ومروءة ونجدة وإيثار للمتع النفسية والروحية على المتع الحسية والجسدية، فقد كان أحدهم يهب ماله في سبيل بيت من الشعر، ويعرض نفسه وأهله للخطر في سبيل حماية غريب يلوذ به‏.‏ وكانت صفاتهم هذه مع ما كانوا يتصفون به من الأمانة والصدق والشجاعة مؤهلاً عظيماً لحمل رسالة الإسلام، والله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏

ومع ذلك فإن الشعوب التي حملت الإسلام بعد ذلك كان لكثير منها بلاء عظيم في حمل الرسالة ونشر الإسلام، ولكن هذا الهدف الأسمى، والغاية العظمى قد نافستها في أرضنا غايات تافهة تحولت بها الأمة إلى أمم، فقد زاحمت هذه الغاية غايات دنيوية هزيلة، وذلك بعد أن قسمت بلاد المسلمين إلى دويلات صغيرة، وقام في كل إقليم منها حكم ضعيف أصبح همه أن يحمي كرسيه فأصبحت غايته أن يرتقي بشعبه في سلم الماديات والحياة، فيعيش الناس في مساكن جميلة وشوارع نظيفة، وحدائق غناء، وفي سبيل ذلك نسى الهدف الأسمى للأمة، والغاية العظمى التي أخرجت من أجلها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏110‏)‏‏.‏

وإذا كان الناس في عمومهم على دين ملوكهم‏.‏‏.‏ فإن غاية الحكام أصبحت غاية للشعوب والأفراد أيضاً‏.‏‏.‏ فتجد الفرد منهم يقضي نهاره شطراً من ليله سعياً في هذه الدنيا، وكدحاً فيها، واستمتاعاً بها، وليس وراء ذلك من شيء‏!‏‏!‏ وأصبحنا بذلك على حال يهرم عليها الكبير ويشب عليها الصغير، فما يكاد الوليد فينا يعقل حتى يكون أول درس نلقنه إياه‏:‏ ماذا ستكون‏؟‏‏؟‏‏.‏‏.‏ طبيباً أو مهندساً أو طياراً‏؟‏‏؟‏ وفي سبيل ذلك نمنعه الصلاة إن كانت معطلة له عن الهدف الذي رسمناه له، ونزجره عن الدين خوفاً عليه من القصور أو التقصير في حياته الدنيا‏.‏

وباختصار لقد ضاع الهدف الذي كان لنا حيث كنا أمة لها رسالة وغاية في الوجود، وضاع منا الهدف أيضاً كأفراد خلقوا لغاية، واستخلفوا في الأرض لعبادة ربهم وخالقهم‏.‏‏.‏ وعلاج هذه المشكلة أن نعود من جديد إلى أول الطريق، ونمسك مرة ثانية بطرف الحبل، فنوجه الأفراد الوجهة التي خلقهم الله من أجلها، ونعلن في الأمة الغاية التي أخرجهم الله لها لتكون خير أمة أخرجت للناس‏.‏

 ثانياً‏:‏ التفرق والخلاف هو الذي أذهب ريح هذه الأمة

المشكلة الثانية التي يواجهها مجتمعنا وأمتنا‏.‏‏.‏ هي التفرق والاختلاف، وذلك لضياع الهدف أولاً ثم لضياع حقيقة الدين أو بالأحرى للاختلاف على حقيقة الدين الذي يريد الله منا‏.‏‏.‏ ونعني بحقيقة الدين، نموذجه الأسمى، وصورته الصحيحة، فعقيدة التوحيد التي لا يقبل الله أحداً دون أن يعتقدها قد أصبح عليها جدل طويل‏.‏‏.‏ فحقيقة الألوهية والربوبية وأصول الإيمان، كل ذلك وقع فيه بين المسلمين خلاف يفرقهم إلى مسلم وكافر، وموحد ومشرك، ومتبع ومبتدع‏.‏

وحقيقة الشريعة كذلك أضحى فيها الخلاف بين المسلمين ليس في فرعيات بعينها فقط، بل أيضاً وفي الأصول التي يرجع إليها عند الاختلاف، فالمسلمون اليوم بين متبع يرى لزاماً عليه اتباع الكتاب والسنة، وكذلك رد كل خلاف إليهما، وملفق يستبيح لنفسه تلفيق دينه من الإسلام ومن غير الإسلام، ومناهج التربية والتهذيب‏.‏‏.‏ امتد إليها الاختلاف والتفرق، فنشأت التربية الصوفية بكل ما جرت على المسلمين من ويلات الانحراف عن العقيدة الخالصة، والانزواء عن مقارعة الباطل، وإدخال شعائر الكفار والزنادقة إلى دين الإسلام‏.‏‏.‏ ونشأت أيضاً التربية الحزبية الدينية الضيقة، التي جعلت كل مجموعة من المسلمين أمة برأسها، وحزباً منفرداً يوالي أهل حزبه وجماعته فقط، ويعادي ما دون ذلك، ولا يرى حقاً إلا مع نفسه وجماعته، ولو أعطى ألف دليل، ونشأت التربية الوطنية والإقليمية الضيقة، فعمقت الاختلاف والتفرق، وزرعت الفتنة والبغضاء، وللأسف إن كان الفكر المسموع لهذه التربية الإقليمية كثيراً من الفكر المكتوب والمقروء‏.‏

ولقد جاوزت التربية الإقليمية والوطنية التحزب للوطن كجزء من العالم العربي والأمة الإسلامية إلى الاعتزاز بماضي هذه الأوطان قبل الإسلام، فمجدت لذلك الجاهلية الفرعونية، الآشورية والبابلية والفينيقية، واليعربية الجاهلية، فأصبحت أصنام هذه الجاهليات وآثارها جزءاً من التراث المقدس المعتز به‏.‏

ونشأت كذلك الحزبية السياسية، فاخترعت أيضاً عقائد خاصة، ومناهج خاصة في التربية والموالاة والتشريع‏.‏

وتفرق المسلمون في حقيقة الدين‏.‏‏.‏ فكانوا شيعاً وأحزاباً، وافترقوا كذلك بأسباب الدنيا تعصباً للوطن أو الجنس أو الحزب الذي يخترع عقيدة مناهضة للإسلام وبعيدة عنه، وهذه في الحقيقة مشكلة المشاكل أمام الأمة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، مشكلة المشاكل التي هدت قوى هذه الأمة، وأذهبت ريحها، وشتت شملها‏.‏ ولا نتصور أن يقوم للمسلمين قائمة في الأرض، أو تبنى لهم أمة صالحة إلا بعلاج هذه المشكلة، ولا علاج لها إلا بالتنادي للالتفاف من جديد حول الكلمة التي وحدتهم، والتشريع الذي جمعهم، ولا شك أن الوصول لذلك مستحيل إلا بالرجوع إلى مصادر الدين الأساسية‏.‏‏.‏ الكتاب والسنة وفهمهما على المنهاج الذي فهمه السلف الأول الصالحون من الصحابة ومن سار على دربهم وطريقهم، وكذلك فلا بد من محاربة العصبية والحزبية أيا كان لونها وشكلها، عصبية للوطن أو القوم أو المذهب أو جماعة الدعوة،أو أي مسمى من المسميات الجاهلية أو الإسلامية، وقديماً ذم الرسول صلى الله عليه وسلم التعصب للأنصار عندما نادى منادي المنافقين ليحزبهم ضد المهاجرين‏.‏ فقال‏:‏ ‏[‏دعوها فإنها منتنة‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏

ولذلك فالمسلم الصالح هو الذي يكون تمسكه بالكتاب والسنة، وتعصبه للحق أيا كان، وللدليل أين وجد منصفاً من نفسه، شاهداً بالحق ولو على نفسه، قائماً بالقسط عاملاً به، ولا شك أن هذه التربية تقتضينا أن نبحث عن حقيقة العقيدة والإيمان‏.‏‏.‏ الذي يريده الله، الشريعة، والصراط الذي يحبه الله ويرضاه‏.‏‏.‏ وحقاً أن هذا المضمن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يحتاج منا تعلقاً به، وتحركاً له، واستنباطاً منه وأن نستصغر كل قول يخالف ذلك مهما كان صاحب هذا القول قريباً منا، حبيباً إلينا‏.‏

ولا شك أيضاً أن الجهاد ليكون هذا المنهج في التربية معمولاً به في جامعاتنا ومدارسنا، ومحاضننا الفكرية والتربوية، هو بداية الطريق للتأسيس والبناء، وذلك لينشأ لنا بعد زمن الجيل الموحد الذي يتناسق ويتفق في توجهاته وأفكاره، بدلاً من هذا الجيل الضائع المشتت بين هذه الأنماط المختلفة والأشكال المتباينة من العقائد والأفكار والآراء‏.‏

وبذلك أيضاً تختفي أو تقل مظاهر الاغتراب التي يعاني منها كثير من شبابنا ورجالنا الذين يشعرون أنهم يعيشون في مجتمع لا يفهمهم، ولا يدرك مقاصدهم وأهدافهم‏.‏‏.‏ أو لا يفهمونه ولا يستطيعون الانسجام معه، ومشاركة آلامهم وآمالهم‏.‏

وتختفي أيضاً مظاهر الانفصام والتذبذب الفكري، وازدواج الشخصية، والانتقال من النقيض إلى النقيض دون شعور بالفرق والنقلة‏.‏‏.‏ وهذا المرض بات يهدد معظم شبابنا ورجالنا ونسائنا، حيث التربية المزدوجة والمناهج المختلطة، والحشو الزائف، والتقليد الأعمى لكل ناعق بخير أو بشر حتى فقدنا لذلك الشخصية المستقلة، والفكر الناقد‏.‏

وبالتربية الإسلامية ستختفي أيضاً قوافل التقليد، وجحافل الدهماء التي باتت تفرزها هذه المناهج العمياء التي تقوم على فكر القطيع‏.‏

 ثالثاً‏:‏ غلبة أهل الكفر على أهل الإسلام

المشكلة الثالثة التي تعترض سبيل أمتنا وتحول بين عودة مجتمعاتنا إلى الدين القويم، هي وقوع أوطان المسلمين تحت سيطرة دول الكفر زماناً طويلاً‏.‏‏.‏ هذه الدول التي مزقت أوطان المسلمين، وجعلتهم دولاً، وغرست في كل وطن مشكلات تستعصي على الحل، فقد أقامت تشريع الكفر مكان تشريع الله، ووضعت منهاج للتعليم والتربية لا تخرج إلا اتباعاً وأذناباً لكفر الكافر المستعمر، وربت مجموعات من العملاء والموالين‏.‏‏.‏ لا يزالون يتولون أفضل المناصب في توجيه الأمة، وأقامت بذلك واقعاً جدياً من الحكومات السياسية، والأحزاب، والحدود السياسية، والقوانين الاقتصادية، والاجتماعية، وغرست أنماطاً من السلوك والتقاليد والعادات والميول تتفق مع أخلاق الكفار‏.‏‏.‏ واستطاعت أيضاً تحويل طائفة عظيمة من المسلمين عن عقائدهم الراسخة في الإيمان بالله، ووجوب حمل رسالة الإسلام إلى الإيمان بالحياة الدنيا وحدها هدفاً وغاية وسعياً‏.‏

والخلاصة‏.‏‏.‏ أنه قد نشأ في أرض الإسلام واقع جديد يناهض الإسلام ويعاديه ويناقضه، وهذا الواقع يتمثل في القوانين الوضعية، والمناهج التربوية، والفكر الثقافي الموالي لدول الكفر، وكذلك يتمثل هذا الواقع في كثير من آداب السلوك والعادات والتقاليد‏.‏

ولا شك أن الجهاد لتغيير هذا الواقع يحتاج إلى جهود كبيرة في كل تلك الميادين حتى ينشأ واقع جديد ينبع من الإسلام‏.‏‏.‏ فتعديل القوانين الوضعية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى جهود علماء ومتخصصين ودعاة بعد أن ركدت حركة الاجتهاد الفقهي زماناً طويلاً‏.‏‏.‏ وأصبح من يتصدر للعلم والدعوة والفتيا، لا يحملون من علوم الإسلام إلا شيئاً قليلاً‏.‏‏.‏ وهذا القليل مختلط بغيره من الفكر الدخيل على الإسلام‏.‏

وكذلك فالجهاد لتحويل آداب السلوك والعادات والتقاليد، والأخلاق بوجه عام لتتفق مع الشريعة الإسلامية‏.‏‏.‏ يحتاج أيضاً إلى جهود هائلة، من التوعية والتوجيه، وضرب المثال، وإبراز أخلاق الإسلام وآدابه‏.‏‏.‏ في الطعام والشراب واللباس والزينة، والأفراح، والأحزان، والمناسبات الخاصة والعامة، وذلك حتى ينشأ جيل جديد يعتز بتراثه الإسلامي‏.‏‏.‏ وبذلك تمحي الآثار العقائدية والفكرية والثقافية والاجتماعية، التي خلفها الاستعمار‏.‏

 رابعاً‏:‏ الغزو الفكري والثقافي الدائم

يعيش العالم اليوم وكأنه قرية واحدة‏.‏‏.‏ فما يقع في أقصى الأرض من أحداث يتأثر بها من يعيش في أدناها‏.‏‏.‏ وما يبتدع من لباس أو زينة أو عادة أو فكر أو عقيدة ينتقل في وقت قصير لتعم شرق الأرض وغربها، وذلك عبر وسائط ومنافذ لا يكاد يخلو منها قطر اليوم أو بلد‏.‏‏.‏ فالمحطات الفضائية والتلفزيون والراديو، والشريط المسجل‏.‏‏.‏ مرئياً ومسموعاً‏.‏‏.‏ الصحيفة والكتاب والسياحة، والمؤتمرات العامة‏.‏‏.‏ كل ذلك جعل الناس يتأثر بعضهم ببعض، وينقل بعضهم عن بعض‏.‏

وكل ذلك يحتاج -إذا أردنا حماية مجتمعنا الإسلامي- وناشئتنا الإسلامية إلى جهود هائلة‏.‏‏.‏ ليس لمجرد المنع وإغلاق المنافذ والأبواب، فقد أضحى هذا مستحيلاً، وإنما للتوجيه والبيان والإرشاد، والرد على الشبهات والأفكار الواردة، والعقائد المسمومة، وكل هذا ولا شك يحتاج إلى علماء ومتخصصين، على مستوى الحدث، فهماً له، ومعرفة بجذوره، وإدراكاً لمغازيه ومراميه، وقدرة على الرد‏.‏

ونأسف إذا قلنا أن أمتنا لا تملك أمام الغزو الثقافي والإعلامي بجيوشه الجرارة، وأسلحته الفتاكة إلا مقاومة قليلة، ولا تملك أيضاً من وسائل القوة والعلم للتصدي لمثل هذا الغزو إلا شيئاً يسيراً جداً‏.‏

 خامساً‏:‏ أخطاء في مناهج الإصلاح

بالرغم من هذا الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي الجديد الذي تعيشه أمتنا‏.‏‏.‏ فإن هناك من يظن أو يعتقد أنه يستطيع تغيير هذا الواقع بمجموعة من القوانين، يصدرها حاكم، أو زعيم ما‏.‏‏.‏ أو كما يقولون‏:‏ يمكن تغيير هذا الواقع بجرة قلم وهذا بعيد جداً عن الصواب‏.‏‏.‏ لأن الإسلام ليس امتثالاً لظاهر من الأعمال فقط بل هو قبل ذلك‏.‏‏.‏ إيمان يملأ القلب، ويجعل العمل الظاهري ثمرة لذلك الإيمان القلبي والإيمان لا يفرض بقانون‏.‏

نعم‏.‏‏.‏ الإيمان يحمي بقانون ونحن في الحقيقة نحتاج أولاً إلى وجود الحقيقة الإيمانية في عامة الشعب أو جمهوره‏.‏‏.‏ وذلك حتى يلاحق القانون الشواذ والقلة، ولا يوضع القانون لملاحقة الكثرة والعامة، فإن القانون إذا لاحق الكثرة استحال تطبيقه إلا عن طريق الإرهاب والإكراه‏.‏‏.‏ وهذا بحد ذاته منفر من الإيمان والإسلام‏.‏

وكذلك هناك من يظن أن التربية كالصناعة المادية حيث تصنع الخامة من المعدن أو القطن أو الصوف في جانب من المصنع لتتلقاه سيارة وثلاجة وقماشاً في الجانب الآخر‏.‏‏.‏ وهذا خطأ كبير لأن التربية الإنسانية الفعلية بطيئة بطء النمو الجسماني‏.‏‏.‏ فتربية الأفكار والعقائد وآداب السلوك يحتاج من الزمن ما يحتاجه النمو الجسماني‏.‏

ومثل المستعجلين في التربية‏.‏‏.‏ كمثل من يريد جنيناً بشرياً في أقل من تسعة أشهر، ومن يريد إخراج رجل كامل في أقل من السنين التي تستلزم ذلك، والحال أننا نحتاج لنعيد الأمة إلى جادة الحق وصراط الله‏.‏‏.‏ إلى عدد من السنين يناسب الوقت الذي في مثله يتربى الجيل‏.‏

والخلاصة‏:‏ أننا نحتاج أن نلقي البذرة وأن ننتظر النمو الطبيعي الفطري لنباتها، ثم نتعهدها بالسقي والرعاية، وإبعاد الأذى والآفات عنها، حتى تشب وتقوى، وتصبح شجرة باسقة تقوى على مقاومة الريح وهضم الآفات‏.‏‏.‏ والبذرة التي نزرعها هي الكلمة الطيبة‏.‏‏.‏ فلنطرق بها كل أذن‏.‏‏.‏ ولننتظر حتى تعمل عملها في القلب والنفس‏.‏‏.‏ ولنتعهدها حيث ألقيناها بدوام التذكير، ولنحميها من الآفات والسموم، ولنصبر منها على الضعف الذي يعتريها حتى تصل إلى الكمال الذي قدره الله لها‏.‏

وكذلك الأمر مع المجتمع والأمة‏.‏‏.‏ نحتاج إلى غرس الفضيلة، ونشر الوعي، والانتقال خطوة نحو الكمال والإصلاح‏.‏

 سادساً‏:‏ التصور الخاطئ للمجتمع الصالح والإنسان الصالح

يقوم هناك تصور خاطئ، وخاصة في عقول بعض المربين والدعاة، إذ يظنون أن المجتمع الصالح، مجتمع بلا جريمة، ولا شرور‏.‏‏.‏ والإنسان الصالح إنسان بلا خطيئة‏.‏

وهذا التصور الخاطئ جعل المجتمع المطلوب مجتمعاً مثالياً، مثالية خيالية لا وجود لها في عالم الواقع‏.‏‏.‏ والإنسان المطلوب أو المرتجي إنساناً مثالياً ملائكياً لا وجود له، وهذا التصور الخاطئ أوصل كثيرين من الدعاة والمربين والعلماء والمصلحين إلى اليأس أو الإحباط وذلك عندما شاهدوا البون الشاسع بين ما يطمحون إليه ويظنون أنهم بالغوه، وأنه ممكن التحقيق، وبين الواقع الذي يصلون إليه بالفعل في التربية والإصلاح‏.‏

وتصحيحاً لهذا المفهوم الخاطئ‏.‏‏.‏ نقول‏:‏ إن إصلاح المجتمع الإنساني كله، وهداية الناس جميعاً‏.‏‏.‏ أمر مستحيل، بل هو أصلاً مخالف لسنة الله تبارك وتعالى فقد شاء أن يكون في الأرض مؤمن وكافر، وأن يكون جنة ونار، وأن تمتلئ هذه وتلك‏.‏‏.‏ وهذا الأمر جار وفق حكمته ومشيئته سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏(‏هود‏:‏118-119‏)‏‏.‏

وقال تعالى مسلياً رسوله صلى الله عليه وسلم ومهوناً عليه‏:‏ ‏{‏وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏35‏)‏

ولذلك فإن الكفر لن يمحى من الأرض ما دام الإنسان عليها، بل سنة الله أن يبتلي المؤمنين بالمجرمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين، وكفى بربك هادياً ونصيراً‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏31‏)‏‏.‏ هذا في الدوائر الإنسانية العامة‏.‏

وأما في الدائرة الإسلامية‏.‏‏.‏ أعني دائرة أهل الإيمان فإن الخطيئة والجريمة لم تنقطع من مجتمع المؤمنين مطلقاً، فولدي آدم قتل أحدهما أخاه، وكتب الله القصاص في القتلى بين المؤمنين من أجل ذلك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر‏.‏ قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين‏.‏‏.‏ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين‏.‏ إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار‏.‏ وذلك جزاء الظالمين‏.‏ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏27-30‏)‏‏.‏

وقد عقب الله على ذكر هذه الجريمة بتذكيرنا أن الأخ الشقيق يقتل شقيقه ظلماً إذا قدر على ذلك‏.‏‏.‏ عقب الله على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏}‏ ‏(‏المائدة ‏:‏32-33‏)‏‏.‏

وكذلك كان مع نوح ابنه وزوجته يتظاهران بدينه وليسا كذلك، وفي بني إسرائيل يوم كانت أمة مهتدية قائمة بأمر الله في الأرض كان فيها آنذاك من عبد العجل، ورفض الانصياع لأحكام التوراة، وطلب من موسى عبادة الأصنام، واتهم موسى بقتل هارون، ومن آذى موسى، ومن نكل عن الجهاد والغزو وجبن أمام الأعداء، ومن سرق فقطع، ومن قتل واتهم الأبرياء بأنهم قتلوا قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها‏}‏ ‏(‏البقرة ‏:‏72‏)‏ أي درأ كل منكم التهمة عن نفسه، واتهم غيره وكل ذلك ونبيهم معهم ورسولهم بين ظهرانيهم‏.‏‏.‏ وكل ذلك أيضاً صدر من المؤمنين الذين يعيشون في رحاب الوحي، بل ويشاهدون المعجزات كل يوم أمام أعينهم‏.‏‏.‏ فقد شاهد هؤلاء انشقاق البحر، وتحول العصا إلى حية، وخروج يد موسى من جيبه بيضاء من غير سوء، وضرب آل فرعون بالسنين، وتسليط القمل والضفادع عليهم، وإحياء القتيل بضربة من قطعة من لحم بقرة مذبوحة‏.‏‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏74‏)‏

ولكنهم مع ذلك كانوا كما ذكر الله‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة* وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏74‏)‏

وكذلك كان في تلاميذ عيسى عليه السلام من وشى به ودل الحكام الظلمة عليه، وهو يعلم أنهم يطلبونه للقتل‏!‏‏!‏‏!‏

وبالرغم أيضاً من أن مجتمع المسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كان خير مجتمع، وأصحابه كانوا خير الأصحاب، وإلا أنه كان فيهم أيضاً من شرب الخمر فجلد، ومن زنى فرجم، ومن سرق فقطعت يده، ومن أصابه ضعف فأفشى سر الرسول لأعدائه، ومن اتهم زوجة النبي -برأها الله- بالزنا ثم جلد، وكان منهم أيضاً من ترك الرسول في يوم جمعة وهو قائم يخطب عندما سمع أنه قد جاءت تجارة‏.‏‏.‏ وكذلك كان فيهم البدوي الجلف الذي يبول في المسجد، ومن يجذب الرسول صلى الله عليه وسلم بحاشية ردائه حتى تؤثر في رقبته‏.‏‏.‏ وكل هؤلاء كانوا من المؤمنين الصالحين، وأما المنافقون فقد كان مجتمع المدينة مليئاً منهم، وهو خير مجتمع وجد على سطح الأرض، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد تمالئوا مع اليهود والمشركين، وخانوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتآمروا على قتله، وكادوا أن يقتلوه غير مرة، وسبوا الرسول والمهاجرين‏.‏‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا‏}‏ ‏(‏المنافقون‏:‏7‏)‏‏.‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏ ‏(‏المنافقون‏:‏8‏)‏‏.‏‏.‏ وقالوا أيضاً عن المهاجرين‏:‏ ‏{‏ما نرانا وهؤلاء إلا كما قال القائل‏:‏ سمن كلبك يأكلك‏}‏ ‏(‏قالها رأس النفاق عبدالله بن أبي في غزوة بني المصطلق‏.‏‏.‏ راجع البداية والنهاية ج4 ص/157‏.‏‏.‏ وتفسير سورة المنافقين‏)‏‏.‏‏.‏ ومع ذلك فقد كانوا يصلون مع النبي، ويحجون معه، ويجاهدون الكفار، ويخرجون في الغزو معه، ويتكلمون فيعجب السامع لكلامهم ويسمع لهم من حلاوة منطقهم وحلو حديثهم‏.‏

وكان فيهم كذلك الجاهل الأحمق الذي قال‏:‏ اعدل يا محمد فهذه قسمة منا أريد بها وجه الله‏.‏

ولا شك أن الآفات والجرائم والأخطاء والضعف التي كانت بعد ذلك في مجتمع الراشدين، ومن بعدهم، كانت أعظم من هذا بكثير، والمقصود من كل ذلك‏.‏‏.‏ التنبيه على أن المجتمع الصالح ليس مجتمعاً تختفي منه الجريمة، ويمحي منه الشر، وتزول منه الأثرة والطمع والشح والبخل زولاً كاملاً‏.‏‏.‏ كلا‏.‏‏.‏ فإن مثل هذا المجتمع لا وجود له في عالم الواقع‏.‏

ولكن المجتمع الصالح هو الذي لا يقر هذا الباطل، ويعمل على تلافيه وعلاجه، فالجريمة مسيطر عليها، نافذ حكم الله في أصحابها‏.‏‏.‏ والضعف يعالج بما يناسبه‏.‏‏.‏ شدة ولينا، ومسامحة وتنكيلاً‏.‏ حسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، ويتطلبه الموقف‏.‏

والمقصود من سرد ذلك كله أن نبين الجانب الآخر من الصورة‏.‏ وذلك أن عرض المواقف الحسنة والجوانب المثالية الطيبة‏.‏‏.‏ وذلك أن عرض ينظرون إلى المجتمعات الفاضلة نظرة غير واقعية، وغير صحيحة، ولذلك فقدوا الأمل في إصلاح مجتمعاتنا المعاصرة التي تعج بالفساد، واعتقدوا أنه يستحيل الوصول إلى الصورة التي تخيلوها‏.‏‏.‏ فانصرفوا عن الدعوة والعلاج، بل وقعت طوائف منهم عن الإيمان وهلكت أيضاً عندما رأوا أن أشخاصهم وذواتهم لا يمكن أن ترتقي للمستوى الذي تخيلوه للفرد الصالح‏.‏‏.‏ ولو عرف هؤلاء حقيقة النفس البشرية لم ييأسوا من علاج أنفسهم وغيرهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى* الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع المغفرة، هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى‏}‏ ‏(‏النجم‏:‏31-32‏)‏‏.‏

فجعل الله الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون الكبائر وتقع منهم الصغائر التي يغفرها الله، وهذا هو المحسن وكذلك أدخل الله في جملة المتقين من يفعل فاحشة ثم يتوب منها‏.‏‏.‏ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏133‏)‏‏.‏

ثم وصف الله سبحانه هؤلاء المتقين فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ونعم أجر العالمين‏}‏‏.‏

 خاتمة

هذه هي أهم العقبات التي تعترض سبيلنا وتحول بين المصلحين وبين إعادة بناء هذه الأمة من جديد، وهي عقبات ليست مستعصية على الحل وذلك إذا عرفنا هدفنا وغايتنا جيداً، واتخذنا الطريق المناسب لذلك، واتبعنا سنن الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتغير واتخذنا السياسة الشرعية التي سار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ فقد عرفوا غايتهم قبل أن يسيروا خطوة واحدة على الدرب‏.‏‏.‏ عرفوا أن غايتهم هي عبادة الله الواحد لا شريك له، وتكوين أمة على هذه الغاية تقوم بأمر الله، وتجاهد بسبيله، ومن ثم وحدوا كلمتهم ونسوا أحقادهم القديمة، وتركوا كل ما تفتخر به الجاهلية من الأحساب والأنساب، واعتصموا بحبل الله جميعاً وواسى كل فرد منهم أخاه، وفاداه بروحه ونفسه ثم عرفوا من هم أعداؤهم على الحقيقة واتخذوا السياسة الشرعية في حرب هؤلاء الأعداء، ولم يحاربوهم جميعاً دفعة واحدة، وإنما حاربوا من حاربهم واعتدى عليهم، حتى قويت شوكتهم وعظم أمرهم وأقاموا أعظم أمة عرفتها الأرض، وشهدتها هذه الجزيرة، ثم توجهوا بعد ذلك خارج هذه الجزيرة ينشدون الخير للناس جميعاً والهداية للبشر كلهم فأعلوا كلمة الله في الأرض، ونشروا الإسلام في العالمين، وحافظوا في كل ذلك على نقاء عقيدتهم ونظافة فكرهم، وأقاموا بعد ذلك المجتمع الكامل الذي يعلو فيه الخير، ويقل فيه الشر، وكانوا بذلك خير أمة أخرجت للناس واليوم نحن مطالبون أن نقتفي أثرهم، ونتبع سبيلهم متوكلين في كل ذلك على الله وحده سبحانه وتعالى‏.‏ وقد تكفل الله لكل مجاهد في سبيله أن يهديه السبيل وينير له الدرب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين‏}‏ فلنكن كما كان سلفنا الصالح ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز‏.‏

*************